لكن الفارس المخذول من قومه وبني دينه وملكه، أبى إلا أن يستُر – قَدْر استطاعته - رِقاع الثوب المُتَهتِّك بفعل الفاعلين، وذهب على جواده في رحلة قصيرة
جواد أعمى وفارس مخذول | مشهد من الأندلس المفقود
الفارس الأسود (موسى بن أبي الغسان) |
الفارس
قبل
529 عام؛ وبالتحديد في الثاني من يناير من العام 1492م؛ خرج "موسى بن أبي
غسَّان" متوشِّحا بسيفه ودرعه ليس معه إلا الله..
خرج
من أبواب (غرناطة) آخر معاقل المسلمين في الأندلس، ليلتقي مع جيوش الإسبان
المُحاصِرة للمدينة العريقة..
وحيدا..
لا
يريد غير الشهادة رافعا رمحه، مدافعا عن كرامة المسلمين المسفوحة على تراب البلاد
التي حكموها لما يزيد على القرون الثمانية..
لولا
"ابن أبي غسَّان" لقيل أن هذا الدين لا يجد من ينافح عنه..
لكن
الفارس المخذول من قومه وبني دينه وملكه، أبى إلا أن يستُر – قَدْر استطاعته - رِقاع
الثوب المُتَهتِّك بفعل الفاعلين، وذهب على جواده في رحلة قصيرة بلا عودة..
رحلة
إلى الله..
الفردوس المفقود
يمر
هذا اليوم كل عام، ليجترّ أصحاب الحنين ذكريات قرأوها على صفحات كتب التاريخ..
ذكريات
الفردوس المفقود، الذي ضاع مع ضياع الدين والنخوة والكرامة..
لم
يكن ضياع الأندلس حدثا عارضا من أحداث التاريخ؛ بل حدثٌ تبعه ما تبعه من ضياع للمسلمين،
وسبقه ما سبقه من الأخذ بكل أسباب الانهزام والضياع.
الضياع
هناك..
في
غرب القارة الأوروبية..
أراد
الفارس المخذول أن يسترد الكرامة ويوقف التاريخ عن كتابة آخر حلقات الضياع..
لكن
ماذا يفعل فارس وحيد على جواد أعمى مقابل الآلاف والآلاف من المُتَربِّصين..
سواء
من الأعداء، أو من إخوة الدين والدم..
مُزِّق
"موسى بن أبي غسان" على مشارف غرناطة بسهام ورماح أعدائه، بعد حياة
حافلة بدأها في غرناطة، ثم انتهى بها في نفس الحاضرة؛ بعد مسيرة طويلة مر فيها
بألمرية ولوشة ومالقة وجبال بُشرة، والعدوة وفاس في بلاد المغرب العربي..
لم
تشفع للأندلس محاولته، ولم يشفع لها ومَضات الضياء التي علَّمت أوروبا كلها معنى
الحضارة، فضاعت في محاولة الصغير "أبو عبد الله" النجاة بنفسه وأهل بيته
في مقابل أراضي غرناطة الفقيدة..
حاول
"موسى" أثناء قيادته لجيوش المسلمين فك الحصار؛ لكن التاريخ لا يُجامل،
فقد سبق السيف العزل..
وكما
قلنا؛ لقد أخذت الأندلس بكل أسباب الانخذال والضياع عبر تاريخها المديد..
لم
تكن محاولة الفارس الأخير ناجحة بمقاييس الهزيمة والانتصار، لكنها كانت مثالية بكل
مقاييس الكرامة والعزَّة والإباء والدين والنخوة والعروبة..
كانت
محاولة جعلت منه بطلا أسطوريا مُخلَّدٌ ذكرُه في الكتب، بعد أن احتفظت قلوب
الموريسكيين لعشرات السنين بتلك الارتجافة الخافتة، التي تعقب ذكر اسمه؛ فهو المُخلِّص
الذي طالما انتظروا عودته إليهم، ويأتي اليوم الذي يقود فيه "موسى بن أبي
غسان" هؤلاء المُعذَّبين في أقبية وسجون الإسبان، مع جحافل المُشرَّدين في
بلاد الشمال الإفريقي، ليعودوا من جديد إلى بلادهم؛ حيث الحدائق العامرة، والحواضر
الزاخرة، والأراضي التي وطَأَها الفاتحون ليُباركوها، وحكمها الأمويون فأعلوا
شأنها، ودخلها المُرابطون فجعلوها مهيبة..
أيها الفارس
"تركت غرناطة خلفك كخاتمة الكتب، نَصٌ فرغ منه النُسَّاخ.. غادرْتَها عند آخر حَمْدٍ في دفاتر الكُتَّاب، عند آخر صفر في دواوين الحُسَّاب، طويتها خلفك كطي السجل للكتب، وعلى بُصاق رجالها نَثَرت آخر متاعك من الدنيا.. نويت أن تُفَرِّقه صَدَقة، فألقيْت به غَضْبة، والآن بعيدا عن كل أحد، تحمِل أيها الغازي.. وحدك."
- هذا المقال كُتِب من وحي رواية (غارب) لـ "محمد عبد القهار"، وبه بعض الاقتباسات من الرواية.
اقرأ أيضا: لماذا كان الرسول محمد عليه السلام هو الأعظم أثرا في التاريخ؟!
COMMENTS