فاطمة رجب تكتب كلمات تُصوِّر مشهدا حزينا.. هذا المشهد قد يُخيَّل لك عزيزي القارئ أنه ينتمي لعمل فني تلفزيوني أو سينمائي.. لكن يبدو أنه كان حقيقة تقاطعت أحداثها مع حياة كاتبتنا.
مشهد "بلا عودة" من وحي الحقيقة | فاطمة رجب
الوداع
استيقظ من نومهِ باكرًا، توضَّأ مُسرعاً وأدَّى صلاته، وقام بتجهيز
نفسه؛ فارتدى ذلك الجاكت المُحبب إليه، وبنطاله الجديد، ثم وقف أمام مرآته يُهندم
نفسه كأنهُ ذاهبٌ إلى زفاف..
انتهى، وخرج إلى غرفة والدته؛ وجدها تُصلي هي الأخرى، وقف من بعيد
ينتظرها، ويسمع دعواتها الخفية التي كلما سمِعها خفتت من حدة أوجاعه..
فرغت الأم من صلاتها، اقترب منها في هدوء، فنظرت إليه متعجبة من
استيقاظه مبكراً على غير العادة؛ ويبدو أيضاً أن لديه موعد، لكن أي موعد في الثامنة
صباحاً؟!
داعبها قليلاً بكلماته الرقيقة كـ صباح كل يوم، ثم أخبرها أن اليوم هو
موعد تحديد عمليته الذي ينتظره مُنذ مدة..
فزع قلبها لاقتراب ذاك الموعد، فبرغم أنها حقاً تُريد شفاءه على عجل،
لكنها كانت تخشى عليه من وغز الأوجاع، فـطلبت منه ألّا يذهب اليوم بمفرده، وأن
ينتظر مجئ أخيه كي يذهب معه، لكنه رفض قائلاً :
"عندما أعلم بالموعد وفي أي يوم بالتحديد، سأخبركم لتكونوا
بجانبي.. لا تقلقي؛ لن أنسي"
أمسك يدها، وقام بتقبيل رأسها، واحتضنها بعيناه الدامعتان، قائلاً
بقلب تملؤه الآلام :
"لا تخافي يا أمي؛ أعلم أنك الوحيدة التي تنتظر شفائي على أحر من
الجمر، لكنني سأذهب؛ وستتم عمليتي، وسأشفى بمشيئة الله، وسيتم عُرسي على تلك التي
بات قلبي يُناجي الله من أجلها.. تلك التي يُحبها قلبك يا أمي.. ألم تتشوقي لذلك
اليوم بعد؟!"
فاضت عينها بالدموع، وقلبها غمرته الأوجاع، وأخبرته :
"أكثر ما أتشوق إليه هو يوم أراك فيه لا تحمل هماً.. يوم تزفك
الراحة في كل مكان.. يوم أحسُ فيه بقلبك لا يصرخُ ألماً.. أستودعك الله أن يحفظك
لي؛ يا خير من أهداني"
احتضنها هو مرة أخري مقبلاً يدها قائلا :
"حُضنك الجنة، وسأعود إليك يا جنة"
داليا
ألقى عليها السلام ثم رحل، وبعد مرور بضع دقائق من رحيله، ووالدته
لازالت تجلس على سجادة الصلاة؛ إذا بـ نغمة هاتفه تأتي من ناحية غرفته..
يبدو أنه قد نسيه.. أسرعت الأم إلى غرفته، والتقطت الهاتف؛ وجدت أن
المتصل مُسَجل (رفيقة القلب داليا)..
قامت بالرد عليها في الحال، ومنها علمت داليا أن اليوم هو تحديد موعد
عمليته ولم يخبرها!
كأنه كان متعمدا ذلك، وكأنه أيضا كان متعمداً ترك هاتفه..
اختنقت داليا حينها بالدموع؛ لكنها تريد أن تراه..
فأخبرت والدته أنها ستأتي سريعاً؛ لتلحق به قبل الوصول إلى محطة
القطار.
وبالفعل.. كانت داليا جاهزة للذهاب إلى عملها؛ فـ ألقت بهاتفها داخل
حقيبتها، وأسرعت بالمغادرة في التو.
الطريق
وعلى الجانب الآخر؛ أسرعت والدته علها تلحق به هي أيضا قبل وصوله إلي
المحطة..
وبالرغم من قرب محطة القطار من منزله، إلا أن من حُسن حظِهما أنه قد
تأخر هو الآخر في طريقه ولم يصل بعد..
فمنذ أن تحرك من المنزل؛ وهو يقف ليُلقي السلام على كل من يقابله؛
كبيراً أو صغيراً، قريباً كان أو غريباً، يعرفه أو لا يعرفه.. حتى هاتان الطفلتان
اللتان كان يداعبهما يوميا؛ ذهب إليهما باكراً ليحظى بحضنٍ منهما يعتبره شافٍ
لأوجاعه.
نهاية المشهد
انتهي من ذلك؛ ثم ذهب مسرعا إلى المحطة؛ حتى لا يفوته موعد القطار.. ولكن؛
وقبل خطوات قليلة من المحطة أحس بدوار شديد جعله يفقد توازنه ليسقط دون وعيٍ..
يبدو أنها نوبته المعتادة...
في نفس اللحظة وصلت كل من والدته وداليا، والتقتا على الجانب الآخر
للطريق، وأبصرتا الحشد الكبير من الناس في الجهة المقابلة..
لم تعلما سبب هذا الحشد، ولم تهتما.. فهناك شخص تبحثان عنه.
عندما تقدمت الامرأتان؛ بدأ يتردد على مسامعهما العبارات القادمة من
عند ذلك الحشد :
"لا حول ولا قوة إلا بالله"..
"يا ساتر يارب"..
"انقلوه للمستشفى"..
"إزاااي"..
"يمكن غيبوبة"..
"مات في نفس اللحظة"..
مات؟!!!
آلاف التساؤلات وعلامات التعجب تصيب الجميع، وقلبان يرتعشان، يصرخان
صمتاً في ذهول بسبب تلك الفاجعة..
أقدامٌ تخرُ أرضاً؛ لا تقوى على حملهما.. لا تقوى على حمل ثقل وجيعة
لا حدود لها.
لم أعلم أنه الوداع الأخير؛ لكن قلبي الذي لم يشفَ كان يشعر أنها
الخطوات الأخيرة..
كان يشعر بدنو أيامه..
سامحيني يا مُقلة عيني على وجيعتك، وعلى قلبك المفطور عليّ الآن..
وأنت يا حلمٌ لم يغب عني؛ السماح لقلبي الهانئ الآن....
لم أقصد؛ ولكن المشيئة تحكم..
بـرحيل دون عودة؛ قد رحل وجهٌ ملائكي قد تزين وتعطر لـيُزَف إلى الجنة..
إليكِ كل الحب..
إليك كل الوفاء..
والسلام.
هذه الكلمات تُعبِّر عن كاتبها
COMMENTS