الإنسان بطبيعته - حتى وإن كان اجتماعياً بقدر كبير - فهو يميل إلى الهروب من ذلك التشويش، إلى حيث هدوء تام من أوجاع الحياة.
"العُزلة وطن" | بقلم (فاطمة رجب)
العزلة وطن |
كُلما كان العقل قوياً، كُلما كان أكثر مَيْلاً إلى العُزلة
آلدوس هاكسلي - كاتب وروائي بريطاني
في الآونة الأخيرة وجدنا أنفسنا بعالم آخر..
عالم ينتمي إلى الحياة، لكن له سِترته الخاصة..
لقد جَرَّتنا الحياة من عقولنا، وألقت بنا إلى هناك، دون أن تَلْقى
منا أية محاولة في ردها؛ وكأننا كُنَّا بحاجة إلى مجتمع آخر لنهرب إليه.. وعلى
الرغم من زَيْف الشعور به، وأحداثه التي هي أشبه بسيف حاد، إلا أن البعض ولَرُبَّما
الكثير لم يندموا على خوضهم ذلك العالم والانتماء إليه..
بل أصبحوا مُمتَنِّين له ولتلك النعمة من ورائه؛ نعمة الترابط والأُلفة
التي أتاحتها لنا مواقع التواصل الاجتماعي؛ أو كما نقول "السوشيال
ميديا"؛ والتي أصبحت حلقة وصل بين مختلف الشعوب والثقافات...
وبرغم ما أتاحته لنا تلك المواقع، إلا أن الإنسان بطبيعته يميل أحيانا
إلـى "العُزلة"، ويحتاج كثيراً أن يخطو إلى الوراء بمفرده؛ بعيدا عن
تزاحمات الحياة، حتى يختلي بنفسه ويبتعد عن صخب وتشوُّش العالم، وأن يصرف نفسه فقط
للتأمل في مقتضيات حياته، لتسوقه الأيام دفعة واحدة وتلقي به إلي واقع قد غفل عنه
كثيراً، فيُفتش.. ما الجديد فيه؟!!
إن العُزلة بقدر أنها تَنُم بعض الشئ عن راحة الإنسان؛ فهي أيضاً
تسيرُ به إلى الابتعاد عن البشرية، وعدم مخالطة هؤلاء الذين جعلوا أنفسهم مُوَكّلون
في الأرض.. فقط لتخريب حياة الآخرين.
فـ الإنسان بطبيعته - حتى وإن كان اجتماعياً بقدر كبير - فهو يميل إلى
الهروب من ذلك التشويش، إلى حيث هدوء تام من أوجاع الحياة.
يقول (توفيق الحكيم)
العُزلة حاجة في نفسي، مثلما الخبز والهواء والماء حاجة في جسدي، ولابد من ساعات أعتزل فيها الناس لأهضم ساعات صرفتها في مخالطتهم وندمت عليها
ويقول (هاروكي موراكامي) أيضاً
لا احد يحب العُزلة.. أنا فقط أكره الخيبة
كأن (موراكامي) يرى أن البشر في الغالب لا يُصَنَّفون بقدر ما يُحدِثونه من خيبات متتالية نحن في غِنَى عنها.
ومن وجهة النظر الخاصة بي؛ فـ أنا أرى العُزلة شيئاً مُغرياً للكثير
منا؛ شيئٌ لابد من اقتناصه من حين إلى آخر كلما دَعَتْ الحاجة إلى ذلك ، فـ العُزلة
- وإن جاد بنا القول - فهي حالة من التطهير؛ نعم تطهير الذات من طُلاسمات الأشياء
والمواقف التي نخوضها..
إنها تُمَثِّل لنا المُتعة، حتى وإن كانت بسيطة بعض الشئ لكنها تقودنا
إلى حيث الراحة من تلك الحشود التي لا تُجدي شيئا، كما تقودنا إلى الانشغال
بأنفسنا عن تفاهات وزيف ذلك العالم من حولنا، ليُفتح أمامنا صَرْحٌ كبير، ومساحة
إبداعية صادقة نرى بها أنفسنا على وجه الحقيقية.
ومن روائع الشاعرة الكوبية (دولسي ماريا لويناس).. تقول:
أُحب العُزلة كثيراً، لدرجة أنني أحياناً أكون خائفة أن يعاقبني الله يوماً ما بملء حياتي بأشخاص، يجعلوني أُكملها - حياتي - بدونها
وأخيرا؛
لا تخجلْ من كَونِك مُحبَّاً لهذا الانعزال، مادام لم يقُدْكَ إلى
الكراهية وبُغْض مَنْ حولك، وما دام كل ما تبحث عنه هو تَصَالُح النفس والاختباء
من تَعَكُّرَات العالم... فـ أنت هكذا محقاً في عُزلتِك، وستجني ثماراً طيبة...
العزلة هي وطنٌ ليس له حدود؛ يهرب إليه المرء كلما عصفت به الحياة.. وزاوية
صغيرة نقف بها؛ ليبحث كلٌ منّا عن ذاته.
هذه الكلمات رأي يُعبِّر عن كاتبه
COMMENTS